ثقافة من زمن الطرب إلى زمن الصّخب: من «ســتّ الحـبايــب» إلــى «أمّيمتـي الغاليــة»،..
كنت ذكرت في مقال سابق أنّي لم أعد أشاهد القنوات التلفزية التونسيّة، ويبدو أنّي قد أقاطع الإذاعات أيضا، وذلك بعد أن تدنّى فيها الذوق الفنّي وتحديدا الغنائي إلى أسفل درجاته، وهل أدلّ على ذلك من طغيان أغاني المزود التي باتت تبثّ من الصباح الى المساء، وما من رادع أو حام للموسيقى الرفيعة التي استمرّت لعقود عديدة..
أمّا وقد قفزت «كاشيات» بعض نجوم المزود الى الستة والسبعة ملايين وحتى أكثر، فالفضل في ذلك يعود الى بعض المنشّطين التلفزيين والمقدّمين الاذاعيين الذين يدسّون السمّ في الدسم، امّا بمقابل مالي أو لأنّ ذوقهم الفنّي منحطّ جدا و«عينيهم تعشق الدعماش» كما في المثل العامّي الشائع..
فنّ الغربة فن «الغلبة»
في زمن من الأزمان، ارتأى أصحاب القرار منع بثّ أغاني المزود في الإذاعة والتلفزة، وبذلك كانوا سدّا منيعا ضدّ الإسفاف والضحالة والذوق الوضيع، ورغم ذلك برز الهادي حبّوبة وصالح الفرزيط، وما دمنا هنا، نشير الى أنّ حبوبة تعامل مع أبرز الشعراء والملحّنين في الأغنية الوترية سعيا منه الى الارتقاء بالأغنية الشعبيّة وتخليصها من الصورة السيّّئة التي التصقت بها، ولم يقف تجديده عند هذا الحدّ بل امتدّ الى المظهر، ومن «الدنقري» مرّ الى القميص الفضفاض والبدلة الأنيقة المحترمة..
ومن أعوام قليلة، وبعد أن تفاقم نوع من الهجرة خاصّة الى فرنسا وايطاليا، أطلّ سمير الوصيف حاملا معه أغنية «قنبلة» وجدت هوى في نفوس أعداد كبيرة من الناس بمن في ذلك من يحملون شهائد علمية وقد يصنّفون في خانة المثقّفين.. غنى «يااميمتي الغالية» التي كتبها ولحّنها مهاجر فأبكى ومازال الى الآن كل من اكتووا بنار الغربة أو لهم تجارب تصبّ في هذا السياق.
و«المضحك المبكي» أنّ في المدوّنة الغنائية العربية أغاني رائعة عن الأم لم تعرف النّجاح ولا الجماهيرية التي حظيت بها الأغنية المذكورة التي صارت تسمع في كل مكان وحتى في السيّارات المتجوّلة.. فهل ينسى «الميلومان» خالدة موسيقار الجيلين محمد عبد الوهّاب «ست الحبايب» أو «مهما خدتني المدن» لعماد عبد الحليم أو «انت زمن الحبّ يا أمي» التي شدّت بها الفنانة زهيرة سالم، وما أكثر الأغاني الجميلة التي مجّدت الأم وأشادت بخصالها ومآثرها.
الخيانة في زمن فن «رقود الجبّانة»
..أمّا في محور غدر الحبيب وتنكره، فقد كتب مبدعون أفذاذ ولحّن ملهمون خلفوا جواهر تتناول الخيانة ونقض العهود، ومهما فعل الزمن، فلن تنسى الذاكرة أبدا رائعة صليحة «بدلتيني يا خاينة بشكون بدّلتيني» التي بقدر جمال كلماتها، تنساب موسيقاها رقراقة رومنسية حالمة، فاينك يا زمن الطرب.
..وبعد أن انقرض الفن الراقي مع أصحابه وصارت الأغنية في متناول كل من هبّ ودبّ وأضحى المزاودية «ستارات»، ظهرت أغنية «معجزة» أقامت الدنيا وأقعدتها، اذ صدح مغنّ شعبي اسمه أشرف بـ«خاينة وما عاد نصافيك» التي وجدت رواجا منقطع النظير، فتهافتت عليه وعليها الإذاعات والتلفزات وحتى بعض الذين يؤدون الأغنية الوترية في محاولة لاستغلال «النجاح» الذي عرفته..
بين ضحى وعشيّة، أصبح «أشرف» مشهورا ومطلوبا حتى من الجالية التونسية في أكثر من بلد أوروبي.
«سوبر ستار» اسمه وليد التونسي!!
في التغنّي بالحبيب أو بالحبيبة، سمعنا روائع وباقيات بلا حساب سواء من المشارقة من أمّ كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم واسمهان وكارم محمود وفائزة أحمد وسعاد محمد وصليحة وعلي الرياحي والهادي الجويني وغيرهم جميعا من العمالقة، فقد يُصاب المرء بالزهايمر، ولكن لن ينسى «حبّ ايه» و«يا ناسيةوعدي» و«مشغول عليك» و«امت حتعرف» (آه يا اسمهان) و«حكاية غرامي» و«زعمة يصافي الدهر» و«فراق غزالي» و«حبّي يتبدل يتجدد» و«يا اللي ظالمني» و«مين عذّبك» و«فراق غزالي» و«آلولي هان الودّ عليه» و«جدّدت حبّك ليه» و«في يوم، في شهر، في سنة».
واليوم وقد أصبح المغنّي وليد التونسي أشهر من يغنّي «الشعبي»، أضحت كلّ أغنية جديدةله مرغوبا فيها، وهو مدين في ذلك الى بعض أصحاب المنوّعات أو الاذاعيين وخاصة في برامج الرياضة (أين سي عبد المجيد المسلاتي رحمه الله فقد كانت «أعجبت بي» لعبد الوهاب ثابتة في جينيريك برنامجه «رياضة ونغم»).
ومن آخر ما غنّى أخونا وليد واحدة يقول فيها «كل يوم حبّك يزيد، كل يوم في القلب عيد» حاولت أن أجد فيها ما يعجب أو يشد كلمة ولحنا فلم أتحسس ما يمتع او هو خارج عن العادي البسيط، ولكن «اذا حبّوك ارتاح» فهي «ضاربة» بحكم البث المتواصل أو «الماتراكاج»، وأمّا صاحبها، فلم يعد ينقصه الاّ ان يسير تحت الحراسة، ومن أدراك أنه ليس كذلك؟
نجيب الخويلدي